close
Login Form
Lawyer/Affiliate Sign Up
head

Article Content:

صناعة الرأي والقرار: بين السرية والفضائحية

صناعة الرأي والقرار: بين السرية والفضائحية
نادي متخرجي الجامعة الأميركية
25 تشرين الثاني 2004
جواد عدره

تعتبر مشكلة "الفساد" من أبرز القضايا والتحديات التي يواجهها لبنان في أيامنا الحالية. وحسب بعض المراقبين فان الفساد ظاهرة جديدة، جاءت نتيجة للحرب الأهلية والنفوذ السوري، استبقتها الطبقة السياسية الفاسدة وغذتها. في مقالتنا هذه سنبين أن ما تم تعريفه ب "الفساد" انما هو نظام، أو حالة ذهنية تشكل جزءا ً لا يتجزأ من السلوكيات الاجتماعية السائدة، نشأت (ربما) نتيجة لظروف قسرية. كما أننا سنستعرض أسباب هذه الحالة وأعراضها وكلفتها بشكل عام، وذلك بغية تسليط الضوء على هذه الظاهرة.

لقد تطور هذا السلوك هذا السلوك نتيجة لنظام عشائري طائفي، حيث الشيخ أو الزعيم فيه أقوى من العشيرة، والعشيرة أقوى من الطائفة، والطائفة أقوى من الدولة. لقد حال هذا النظام دون بناء دولة عصرية، اذ انه يرتكز على التقاليد وسلطة الزعماء، والأعيان يقومون بدور الوسطاء بين الشعب والحكومة في هذا النظام. يعمد اللاعبون الأساسيون في هذا النظام، في ظل غياب الدزلة أو السلطة  المركزية القوية، الى نسج التحالفات مع القوى الأجنبية بغية تحقيق مصالحهم الخاصة، مشرعين بذلك الأبواب أمام التدخل الأجنبي، مما يؤدي الى تفاقم الوضع وزيادة العقبات الحائلة دون قيام الدولة. سنحاول في مقالتنا  أيضا ً اظهار مرونة النظام اللبناني واستدامته، وقدرته على التكيف والمقاومة، وكلفته الباهظة، ان على المستوى المالي أو البيئي أو البشري. لذا، فكل دعوة الى الاصلاح والحكم الصالح، سواء جاءت من قبل منظمة الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو القوى الخارجية الأخرى وكذلك  الداخلية، تصبح مجرد كلمات رنانة ما لم تقترن بمقاربة تصاعدية، تنطلق من القاعدة، وتتناول الأسباب الحقيقية التي أدت الى نشأة هذه الظاهرة وضمنت استمراريتها.

لا بد من لمحة تاريخية من أجل فهم آليا النظام اللبناني واثبات أن الفساد ليس عنصرا ً غربيا ً عن هذا النظام، انما هو مكون جوهري، يدخل في صلب تركيبة النظام نفسها. وما يصح بالنسبة الى لبنان ينطبق على المنطقة جملة، انها شكلت المسرح المشترك للأحداث السياسية نفسها، بدءا ً بالحكم العثماني، مرورا ً بتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو، وصولا ً الى وعد بلفور. يصف ويليام م. تومسون مجتمع هذه المنطقة في كتابه (الأرض والكتاب) بقوله:

"تتعايش مختلف الأديان والطوائف، وتمارس معتقداتها المتضاربة جنبا ً الى جنب؛ الا أن الشعب ليس موحدا ً ضمن مجتمع متجانس، ولا تربط بين أفراده مشاعر الأخوة. أعتقد أنه ما من بلد آخر في العالم يحوي هذا القدر من الشيع المتنافضة... لا يمكنهم قط تشكيل شعب موحد، أو ضم جهودهم لتحقيق أية غاية دينية أو سياسية، فمصيرهم هو اذن الضعف والعجز عن الحكم الذاتي والبقاء عرضة لغزوات القوى الأجنبية والقمع. هكذا كانوا في الماضي، وهكذا هم اليوم، وسيبقون على هذه الحال - شعبا ً منقسما ً، مشرذما ً ومقموعا ً".

لا شك أن تومسون محق بشكل عام في وصفه للانقسامات القائمة بين مختلف مجتمعات المنطقة، بما في ذلك لبنان. ثمة مجموعات منقسمة مختلفة، كرست نفسها على أسس طائفية قبيل قيام دولة لبنان الحديث، واستمرت على هذا النحو حتى بعد انشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920، مما أدى الى بروز أزمة هوية مزمنة. ان السلطة السياسية التي يتمتع بها رجال الدين والمؤسسات الدينية، وتحكمهم بالشؤون المدنية، ورفضهم لصدور قانون مدني، كلها عوامل ساهمت في شحن الأزمة واستفحالها من خلال تغذيتها النظام الطائفي، وتعزيز نفوذه، ومد سيطرته لتشمل مختلف أوجه حياة اللبنانيين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لقد كشفت نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته "الدولية للمعلومات" لمصلحة مركز الديمقراطية وحكم القانون في آب 2005 أن 34% من المستطلعين قد أجابوا أن انتماءهم الأول هو الى وطنهم لبنان، في حين أجاب 37.3% أنهم ينتمون أولا ً الى طائفتهم، وتساوى الانتماء الى لبنان والطائفة لدى 22.3% من العينة. لكن، وعند سؤالهم عن أولوية انتمائهم في حال حصول تضارب بين المصلحة الوطنية والمصلحة الطائفية، انخفضت نسبة الذين أجابوا بالانتماء الى لبنان والطائفية بصورة متساوية الى 17.6% في المقابل، ارتفعت نسبة الانتماء الى الطائفة أولا ً لتصبح 48.8%. فالمشكلة اذا ً هي في الانتماء وفي تكوين السلطة ورموزها وأدواتها.
لقد ضمن الرئيس بشارة الخوري، الذي تبوأ سدة أول رئاسة للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال في العام 1943، مذكراته وصفا ً للأسلوب الذي اعتمده النظام العثماني، اذ حصر التعيينات في القطاع العام على أساس طائفي ومذهبي، فيصف كيف أن والده فقد منصبه لصالح ابن عمه الذي أقدم على رشوة كيليان صهر الوالي العثماني واصا باشا. كما أن الحكومة والادارة العامة قد اتسمت بالطائفية والاقطاعية والمحاباة حسب ما جاء في مذكرات الرئيس الخوري: أما الوظائف،الكبرى منها والصغرى، فموزعة منذ القديم بين الطوائف: فوكيل رئيس مجلس الادارة مثلا ً ماروني، والمحاسبجي سني تركي... وجعلت الوظائف الكبرى وقفا ً على العائلات الكبيرة في البلاد...

لقد استبقى الانتداب الفرنسي هذا النظام، فرشوة السياسيين وأصحاب النفوذ كانت شائعة من أجل الحصول على دعمهم، كما كان التزوير يمارس أثناء الانتخابات، وكان مبدأ المحسوبية والواسطة هوالسائد في التعيينات الادارية والحكومية. لم يكن الفساد يقتصر على السياسيين والادارات، بل انتشر ليشمل مختلف القطاعات وسائر  أوجه حياة اللبنانيين. ويعترف اسكندر الرياشي، وهو صحافي بارز في تلك الحقبة، في كتابه "قبل وبعد" كيف أن الفساد قد انتقل الى وسائل الاعلام، مشيرا ً الى الأمير لطف الله الذي كان يسعى لرئاسة الجمهورية، لقد كان كريما ً معنا - كما كان كريما ً مع جميع الصحافيين الكبار في هذه البلاد الذين كانوا يجتمعون كل ليلة على مائدته الشهية...وهؤلاء الصحافيون الذين كان بينهم من يصلي بالنهار ويفخر على العالم بتجرده ونزاهته، ومع ذلك يبيع نفسه بالليل. كان لاسكندر الرياشي دور أساسي في رشوة سكان البقاع، فاستخدم  أموالا ً فرنسية "لاقناعهم" بالتصويت لصالح الانتداب الفرنسي أثناء استطلاع الرأي الذي قامت به لجنة كينج كرين. ولا تزال هذه الظاهرة متفشية بشكل كبير في لبنان في أيامنا الراهنة.

الا أن بشارة الخوري المتذمر من الظلم الذي ألحق بوالده قد اعتمد بدوره النوع نفسه من الممارسات، فاشتهرت ادارته بفسادها. وكان شقيقه سليم، الذي لقب بالسلطان سليم،  أحد أكثر الشخصيات فسادا ً ونفوذا ً لقد أدى هذا السلوك في نهاية المطاف الى حمله على الاستقالة في العام 1952 على أثر الثورة البيضاء.

شهد عهد شمعون استمرارية هذه الممارسات. أما العهد الشهابي فقد شهد خطوات واعدة في مسيرة اعادة هيكلة الادارة العامة ومكافحة الفساد من خلال انشاء عدة مؤسسات، مثل مجلس الخدمة المدنية، ومصرف لبنان، وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. بيد أنه ثبت أن محاولات الرئيس شهاب لاصلاح النظام مع المحافظة على الطبقة السياسية نفسها والسيطرة على أجهزة المخابرات انما هي معادلة صعبة، يتعذر تطبيقها اذ من شأنها عرقلة كافة الاصلاحات الممكنة. لقد كثرت المطالب التي تنادي باحياء دور بعض أجهزة الرقابة هذه؛ الا أن معظمها يبقى عاجزا ً وغير فعال نتيجة للتدخل السياسي وطبيعة النظام.

كل محاولة لشرح النظام وتبيان جذوره التاريخية لا تكون مجدية ما لم تتناول الدور الذي لعبه التدخل الخارجي. لطالما لجأت الطوائف المتنافسة في لبنان، على مر التاريخ، الى نسج التحالفات مع القوى الأجنبية من أجل تعزيز سلطتها ومواقعها، بصرف النظر عن دور هذه القوى ومصالحها. يؤكد الدكتور جورج قرم في كتابه "لبنان المعاصر، تاريخ ومجتمع"، أن التنافس بين  مختلف الطوائف في لبنان لا يقتصر على النطاق المحلي، انما يعتمد الى حد كبير على الاستعانة بالخارج؛ وهو يرجع هذه الظاهرة الى العائلات اللبنانية الحاكمة التي كانت تستعين بالباشاوات العثمانيين في دمشق وعكا (فلسطين). يشرح قرم أن كافة محاولات الاصلاح منذ ذلك العهد قد فشلت بسبب بقاء الطبقة الحاكمة الذي ضمنه التدخل الأجنبي. من الأمثلة الفذة التي تجسد كلام قرم رسائل دي مارتيل، المفوض السامي الفرنسي في لبنان، الى عشيقته التي يكشف فيها كيف  أيد رئاسة اميل اده وضمنها: وهكذا صار اميل اده رئيس جمهورية بفارق صوت واحد، مما يجعل رئاسته هزيلة وتحت رحمتي ورحمة خصومه! ومن الأمثلة الأخرى على نفوذ دي مارتيل في السياسة اللبنانية ما ورد في رسالته التالية:

كنت دائما ً تقولين ان صداقتي لك يجب أن تجعلك صاحبة ملايين، والآن اني أعرف أنك جمعت بعضا ً من هذه الملايين، ولكن يجب أننجد لك طريقة تضاعفين فيها ثروتك، لهذا سأجعل الانتخابات النيابية القادمة بابا ً جديدا ً تكسبين فيها ما تريدين، فلا يصل نائب للمجلس الا بعد أن يكون زارك وعمل واجبه. ومن هذا ترين كما  أنا أحبك!... سأجعل المرشحين (اده وخوري) لا يصلان ليوم الانتخابات الا وكل منهما يكون قد فقد عقله  أو ماله أو فقد الاثنين معا ً...
 يؤكد مايلز كوبلاند في كتابة "لعبة الأمم" شأنه شأن غيره من المحللين والمؤرخين، أن ولاء الرئيس شمعون وخضوعه للغرب قد أديا الى اثارة الزعماء المسلمين ونشوب ثورة 1958. لاتزال هذه النزعة تتفاقم على مر الحكومات المتعاقبة وحتى يومنا هذا.

كما أجرى الدكتور قرم في كتابه "مدخل الى لبنان واللبنانيين"، تحليلا ً معمقا ً للعوامل والظروف التي تؤدي الى الفساد ومدى ارتباطها بالتدخل الخارجي في السياسات والادارات المحلية. يخلص المؤلف الى استنتاج مفاده أنه لا يمكن بلوغ الاصلاح الحقيقي في ظل استمرارية النظام الطائفي في لبنان. فهذا النظام يعكس مصالح القوى الأجنبية ونزواتها. لا يمكن النظر الى الطوائف اللبنانية على أنها مجرد قوى محلية اذ انها مرتبطة، الى حد كبير، بقوى أجنبية، مثل علاقة الموارنة بفرنسا، والأرثوذكس بروسيا، والكاثوليك باليونان، والدروز بالنمسا، والشيعة بايران، والسنة بالمملكة السعودية ومصر في القرن الثامن عشر. قد تختلف القوى الأجنبية، الا  أن المبدأ يظل هو نفسه. لذا،

فالنظام الطائفي، مهما سعينا الى اضفاء طابع حضاري ديمقراطي عليه، لا يمكن أن يؤسس هوية للبنانيين... بل هو مجرد آلية لتشجيع تدخل الدول في الشؤون المحلية... ان التوازنات الطائفية في لبنان وأهمية حصة كل طائفة في ادارة الكيان، ليست من صنع ارادة اللبنانيين، بل هي نتيجة لتوازن القوى الخارجية الفاعلة على الساحة اللبنانية، وأدواتها الطوائف اللبنانية.

يؤكد الدكتور جورج يعقوب في دراسة لم تنشر بعد حول معضلة الأمن في لبنان: قراءة استراتيجية لتاريخ لبنان السياسي، أن التنافس القائم بين الطوائف قد أدى الى التدخل الخارجي، وهو يقدم المعادلة أو الصيغة التالية: تنافس داخلي دائم بين عدة لاعبين، تجزئة السلطة السياسية بين زعماء سياسيين متنافسين على أساس طائفي، نظام وصاية سياسية مبرر على أنه وسيلة للبقاء السياسي، نضال لهدف السيطرة على موارد الدولة من أجل تمويل نظام الوصاية أو استبقائه، استمرار زيادة الطلب على هذه الموارد والمقدرات مقابل محدوديتها، الخوف من تحول قوة أو تحالف قوى الى غالبية مسيطرة، اجراءات مضادة للمحافظة على التوازن، حركة تصاعدية لسلسلة من التحركات والتحركات المعاكسة، النزاع واللجوء الى التدخل الأجنبي.

لقد أثبت النظام مرونته وقدرته على الاستدامة والتكيف، اذ  انه يبدل وجهه ابان الثورات والأزمات الدولية، من انهيار الامبراطورية العثمانية الى الحربين العالميتين، فالانتداب الفرنسي، وحرب العام 1967 وانهيار الاتحاد السوفياتي.

عقب توقيع اتفاق الطائف في العام 1989، ساد اتجاه عام قضى بوجوب اخراج البلد من الحرب الأهلية، واعتبار هذه الحرب "حرب الآخرين على الأراضي اللبنانية"، وتجاهل كل دعوة الى البحث المعمق لفهم أسباب الحرب وعواقبها وضرورة التخطيط للبنان جديد، مما دفع باللبنانيين مباشرة للانخراط في مسيرة "الانماء واعادة الأعمار"، من دون خطة انمائية واضحة وقبل اطلاق "مسيرة المصالحة الوطنية" الضرورية لفهم أسباب الحرب وبلورة رؤية مشتركة وواضحة عن لبنان. لم تلق الدعوات التي نادت بوجوب البحث بشكل معمق في الأسباب أية آذان صاغية. وأصبح أرباب الحرب، بحقوقهم الموروثة، هم الزعماء الشرعيين الاداريين والسياسيين في عهد الرئيس الهراوي.

ومثلما جرت العادة عند نهاية كل حقبة سياسية، انطلقت الشعارات الواعدة والمنادية بالاصلاح ومكافحة الفساد. تميل الطبقة السياسية الحاكمة دائما ً الى تحميل العهد السابق كامل المسؤولية، حتى ولو كانت هي نفسها قد شاركت فيه.

شهد عهد الرئيس الهراوي طريقة حكم عرفت باسم الترويكا، اشارة الى العلاقة الثلاثية التي جمعت بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس  مجلس الوزراء السني ورئيس مجلس النواب الشيعي. أما النزاعات الناتجة عن التنافس على السلطة والموارد فكانت تحل من خلال الرجوع الى السوريين. لقد أعلن رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، وبعد أكثر من عشر سنوات من وجوده في الحكم، أن "الفساد" ومحاولات محاربته قديمة قدم النظام اللبناني نفسه، وأن سببه هو وقوع الادارة في أسر الطبقة السياسية، وعجز أجهزة الرقابة عن ممارسة صلاحياتها رغم التدخلات السياسية9 على الرغم من الوعود التي قدمها عهد الرئيس لحود، كانت الانجازات الفعلية في مجال مكافحة "الفساد" ومعالجة الوضع ضئيلة جدا ً، كيدية حينا ً وانتقائية دائما ً.
تجدر الاشارة هنا الى أن البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح في العام 1943 والذي تعهد بموجبه بمحاربة الفساد، وتعزيز النزاهة والكفاءة، قد تكرر في كافة البيانات الوزارية التي عقبته، والتي كان آخرها بيان الرئيس فؤاد السنيورة في حزيران 2005. فكل رئيس جمهورية ورئيس مجلس وزراء اعتلى سدة الحكم، من دون أي استثناء ومن غير جدوى، قدم العهود بمحاربة "الفساد" وتحسين أداء الادارة العامة، وتحرير لبنان من نظامه السياسي الطائفي.

عقب الانسحاب السوري من لبنان، علت الدعوات المطالبة بالاصلاح، خاصة من قبل زعماء الطوائف الذين تمتعوا بدور حيوي في الادارات السابقة، وكانوا ميالين الى استبقاء النظام اذ كان يخدم مصالحهم. ومن جديد توجهت الأنظار بحثا ً عن كبش فداء يلقى عليه كامل اللوم. هذا ما حصل تماما ً في العام 1920 عقب انهيار السلطنة العثمانية، اذ ان أبرز منتقدي ذلك العهد المضمحل ومعاديه كانوا تحديدا ً من تحالفوا معه واستفادوا منه، كما تفيد مارغريت ماكجيلفري في العام 1920 في كتابها  The Dawn of a New Era in Syria (فجر جديد في سورية).

ثمة حاجة ملحة اليوم الى اعادة هيكلة شاملة للادارة. واقالة كافة المسؤولين والموظفين الذين خدموا في ظل حكم الأتراك، والذين خولتهم الادارة العسكرية الاحتفاظ بمناصبهم. فهم كلهم، من دون استثناء يذكر،  "وصوليون" ومخادعون. ابان عهد الأتراك، تعسفوا واستغلوا سلطتهم ونهبوا الشعب. اليوم، هم أنفسهم أو آخرون بعقلية مشابهة، يمسكون بزمام السلطة وتأتي ممارساتهم أسوة بتلك التي سادت ابان الحكم العثماني. سورية بحاجة اليوم الى تطهير سياسي، ويحق لها المطالبة بالعهد والسلطة في البلد الى أشخاص أكفاء وليس الى أسوا أنواع الزعماء السياسيين (والمقصود هنا سورية الكبرى التي كانت تضم سورية لبنان وفلسطين).

بعد هذه المراجعة للسياق التاريخي، لا بد لنا من التساؤل عما اذا كانت كلمة " فساد" تعبر وتصف بشكل دقيق الحالة اللبنانية العامة. يدرك اللبنانيون أن "الفساد" خطأ. فقد أظهر "الاستطلاع المرجعي حول الفساد في لبنان" الذي أجرته "الدولية للمعلومت" في العام 1999 بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية  USAID أن نسبة عالية من اللبنانيين (46% الى 72%) يدركون مفهوم الفساد، ويعون ما يستتبعه هذا المفهوم (من رشوة، واستغلال للسلطة، وسوء ادارة للموارد المالية، وتضارب في القوانين وتعددها، الخ)، مقابل نسبة ضئيلة فقط من المواطنين (1.2% الى 9.4%) الذين أبدوا نوعا ً من اللامبالاة ازاء هذا الوضع. بالاضافة الى ذلك، أعربت غالبية ساحقة بلغت 98.6% عن اعتقادها بأن الفساد يعم كافة القطاعات في لبنان، كما أكد 95% على أنها ليست ظاهرة جديدة (45.1% نسبوها الى عهد العثمانيين،12.7% الى الانتداب الفرنسي). أما بالنسبة الى السؤال عن أكثر شرائح المجتمع اللبناني فسادا ً، فأجاب 24.3% بأنها الدولة برمتها، فيحين حصر 21.4% اجابتهم بالطبقة السياسية، و14% بالوزراء، و 10.3% بأعضاء مجلس النواب، و95% اعتبروا أن مسؤولي الدوائر الحكومية هم الأكثر فسادا ً. أما أبرز أسباب الفساد التي حددت فكانت: عدم فعالية أجهزة الرقابة، عدم وجود قوانين لحماية المواطنين، ضعف التربية المدنية. كما اتفق 65.2% على أن الفساد ناتج عن نفوذ رجال الدين، وأدانوا التدخل الديني في شؤون الدولة السياسية والادارية. تشير هذه المعطيات الى أن الشعب اللبناني بمختلف طوائفه وفئاته العمرية، ومن كلا الجنسين ومختلف المستويات التعليمية ومستويات الدخل والمناطق، قد توصل الى اجماع على مسألة وجود الفساد وتحديد خصائصه ودلالاته.

وقد أظهر استطلاع آخر للرأي أجرته الدولية للمعلومات مؤخرا ً في  أيلول 2005 أن 75.8% من المستطلعين يعتقدون أن مكافحة الفساد يجب أن تكون في  أعلى سلم أولويات عمل مجلس النواب، في حين طالب 46.5% باقرار قانون انتخابي جديد، و43.2% طالبوا بالعمل على تخفيف الدين العام ، و34.5% بالغاء الطائفية السياسية، و24.2% باطلاق سراح سمير جعجع و 21.2 % بنزع سلاح حزب الله، و 19 % باقرار خطة للتنمية المتوازنة، و14.1% بمسألة التوطين ن و6.6% باقرار قانون عصري للأحزاب، و5.8% باقرار مشروع السلطة القضائية المستقلة. لا شك أن موضوع الفساد هو من المواضيع القليلة التي يجمع عليها اللبنانيون.

ازاء هذا المستوى العالي من الوعي والادانة الصريحة لآفة الفساد، ثمة سؤال بديهي يطرح نفسه: لماذا لم يتم التوصل الى احداث أي تغيير، ولماذا يستمر اللبنانيون في عيش حياتهم بشكل يتنافض مع ما يطالبون به؟ قد يتضمن الجواب عوامل معيقة عديدة مثل عدم استقلالية القضاء أو سوء قوانين الانتخاب. لكن الأهم من ذلك كله قبول اللبنانيين بهذا النظام ورموزه. يريد اللبنانيون في الواقع استبقاء  الوضع الراهن الذي طالما خدم مصالحهم على  أحسن وجه. ويعتبر الدكتور جورج يعقوب في دراسته التي سبق وأشرنا اليها  أن "معظم اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومراكزهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية وثرواتهم، لا يريدون تغيير واقع النظام الحالي، ليس  لأنهم غير مدركين لمخاطره ونتائجه، بل لأنه بات لديهم مصلحة في الابقاء عليه، وبالتالي أي تغيير بامكانه أن "يهز" حقوقهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية". كما أن المضي بالاستفادة منه بشكل مباشر بدلا ًمن استجماع الشجاعة وخوض تجارب مختلفة واعتماد خيارات جديدة.

التعيينات في ادارة حكومية، على الرغم من فائض الموظفين فيها، التهرب من الضرائب، التعدي على الأملاك العامة، وسلسلة لا تنتهي من الانتهاكات، هي أمثلة عما يعتبره البعض من منافع هذا النظام. لقد أمن استمراريته منذ العهد العثماني حتى تاريخ لبنان المعاصر كما سبق وأظهرنا؛  انه عنصر مكون أساسي، من صلب البنية الاجتماعية والسياسية في لبنان. كما  أن الشكوى من النظام، هي، بدورها، مكون آخر من مكونات النظام نفسه. فلطالما تذمر رجال السياسة والدين والشعب بشكل عام من "الفساد" مدينيين هذه الظاهرة، الا أنهم قد تعلموا كيفية التعايش معه. قد يعتبره البعض كشكل من أشكال التكافل الاجتماعي، من الهدر واقتسام الغنائم والكسب غير المشروع والاختلاس الى الاستفادة  البسيطة من مصالح معينة. هذا النظام يجبر كافة اللاعبين على ممارسة لعبة القاء اللوم والاطراء تبعا  ً للظروف ومن دون  أية غاية جوهرية، باستثناء بقاء النظام. ويعترف مختلف اللاعبين بلا  أخلاقية النظام على الرغم من ادراكهم لدورهم الفاعل ومساهمتهم فيه. تتم الاستعانة بالتدخل الأجنبي واستمالته وفقا ً للوضع الاقليمي ، مثل الاستعانة بفرنسا وانكلترا ومصر وسورية والولايات المتحدة واسرائيل.

ان موضوع السلطة والعلاقة معها يستحق الكثير من الدراسة...

يؤكد الدكتورشربل نحاس في كتابه "حظوظ اجتناب الأزمة وشروط تخطيه"، "... ما يبدو ثابتا ً في هذه التجارب جميعها... أولاً ايكال أمر السلطة الى احترافيين غير سياسيين مقابل تسليم مرجعية السلطة الى الخارج، وثانيا ً انصباب جهد هؤلاء الاحترافيين على استبقاء الوضعية التي يعملون ضمنها دون السعي الى بلورة مشروع سياسي واجتماعي عام فيتم استيعاب الأزمة الاقتصادية دون حلها (كما في التسعينات)، أو تهدئة الحرب الأهلية دون تخطيها (كما في الثمانينات)، أو تجميد موقع لبنان ضمن التوازنات الاقليمية دون استيعاب  آليات تطورها (كما في الستينات).

انها التسوية التي استنبطها اللبنانيون من أجل تدبير شؤونهم الحياتية في ظل ظروف اجتماعية وسياسية شبه دائمة. انه تدبير عقلاني ومنظم، على خلاف ما قد لاحظه الكثيرون. تعتبر مسألة تنظيم حركة السير في لبنان مثالا ً مناسبا ً لبرهنة هذه الفرضية. فتكاليف المنافع المباشرة التي يستفيد منها كل من المواطنين والطبقة السياسية باهظة جدا ً كما نستشف من الرسم البياني أدناه. أما استبقاء الوضع الراهن، نظرا ً للعوامل المعيقة الرئيسية التي ترتبط بالوضع السياسي والاجتماعي، فيصبح حلا عقلانيا ً وان كان مكلفا ً

لعبة الرابح دائما ً والخاسر دائما ً

لقد استطاع اللبنانيون اعتماد طريقة عيش تفوق قدراتهم الفعلية، وذلك وفق معايير عالية جدا ً بالنسبة الى المنطقة، نظرا ًالى ثلاثة أسباب: الأموال المحولة من المغتربين لدعم عائلاتهم المقيمة في لبنان،وتدفق رؤو الأموال من الدول الخليجية، وتوفر اليد العاملة الرخيصة من سوريا وسريلانكا والبلدان الافريقية. كما ساهمت هذه العوامل في تطور قيم مجتمع استهلاكي بدلا ً من مجتمع منتج، وذلك على المستويين العام والفردي.نتيجة لذلك، استطاعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، خاصة تلك التي حكمت بعد اتفاق الطائف، الاستدنة بشكل مفرط من المصارف اللبنانية الخاصة بمعدلات فائدة مرتفعة للغاية، من أجل تمويل الهدر والفساد في القطاع العام، مما خلق نوعا ً من الافتراض لدى كل من الرأي العام والمسؤولين بأن الموارد كثيرة ولا تستنزف (على الرغم من الدين العام المتزايد) فاعتبروا أن الجميع سيربح في النهاية، مما شجعهم على استبقاء النظام، واعاقة كل محاولة تسعى الى الاصلاح أو المحاسبة. غير أن واقع اللعبة الفعلي مختلف، اذ ان فوز فريق يعني خسارة فريق  آخر في ما يتعلق بالزعماء السياسيين والدينيين، نظرا ً الى المنافسة الضارية في ما بينهم على المناصب والموارد. فالفوز الذي تحققه طائفةمعينة انما هو خسارة بالنسبة الى أخرى. لقد ساهمت هذه اللعبة أيضا ً في ضمان استمرارية الوضع واضعاف مبادرات المحاسبة. قد يكون الاتفاق الذي توصلت اليه مختلف الطوائف على عدم " فتح الملفات" أو اجراء التحقيقات في قضايا الفساد المفضوحة،على الرغم من الخطابات التي لا تنتهي عن ضرورة مكافحة هذه الآفة والتعهد بالاصلاح، خير مثال على ذلك. 
من الأمثلة الأخرى على ذلك قانون الاعدام. فمن اللافت للانتباه - والمقزز في الوقت نفسه - أن السؤال الأول الذي يطرح عند الحديث عن أي قرار بالاعدام لا يتناول السبب أو الجريمة أو الزمان أو المكان أو الأداة، انما طائفة المحكوم. فلتطبيق هذا القانون في لبنان، لا بد من أن ترتكب الجرائم بشكل تناسبي من قبل أشخاص ينتمون الى كافة الطوائف، كما يجدر بالعقوبات الصادرة أن تتوزع بالتساوي وبشكل متكافىء مع عدد الطوائف الثماني عشرة في لبنان (منها ست طوائف رئيسية)، فيصبح تنفيذ حكم الاعدام مستحيلا ً بموجب قوانين الرياضيات والاحتمالات.

مرة جديدة، وكما هي الحال بشأن قضايا جوهرية أخرى، مثل أسباب الحرب الأهلية، وقانون الانتخاب، والجامعة اللبنانية، سيكون اللبنانيون أمام خيارين: اما تغيير النظام الطائفي أو قوانين الرياضيات. 

بعد مرور ما يزيد على 15 سنة على اتفاق الطائف، شهد لبنان خلالها ارتقاء رئيسين للجمهورية، وستة رؤساء للحكومة، وتشكيل 14 حكومة ضمت 234 وزيرا ً، لا يزال النظام على حاله لكن مقابل ثمن باهظ للغاية، كالعنف، والهجرة...

منذ استقلال لبنان وهذا البلد يتخبط في حلقة مفرغة من العنف كما هو مبين أدناه. قد يكون اللاعبون هم المتغير الوحيد في بعض الحالات، كما يظهر في الرسم1 أدناه.

لقد أثقل كاهل لبنان بأعباء مسلسل العنف والأزمات هذا. فكان ثمن الحرب الأهلية (1975-1990) على سبيل المثال كالآتي:

قدر عدد القتلى بنحو 200 ألف قتيل.
قدر عدد الجرحى ب 300 ألف، منهم نحو 50 ألف اعاقة جزئية و 12 ألف اعاقة تامة.
قدر عدد المفقودين بعشرات الآلاف. 
أكثر من مليون مهجر، واستمر نحو نصفهم مهجرا ً حتى العام 1992. 
هجرة كبيرة اختلفت التقديرات بشأنها لكنها تجاوزت نصف مليون مواطن.
انهيار قيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية حيث وصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة الى 3000 ليرة في العام 1992.
نسبة تضخم بلغت نحو 65%.
تراكم عجز الموازنة العامة مما ولد دينا ً عاما ً بلغ نحو 55 مليارا ً.
خسائر مادية تجاوزت 30 مليارا ً: دمار كامل لأكثر من 10 آلاف وحدة سكنية؛ دمار جزئي لنحو 30000 وحدة سكنية؛ تضرر نحو 100 ألف وحدة سكنية أخرى؛ وتضرر نحو 13400 محل ومكتب.
احتراق وتلف أكثر من 40 ألف سيارة واصابة 70 ألفا ً بأضرار متفاوتة.
تقلص المساحة الحرجية من 11% الى 6%.
التعدي على الاملاك العامة، بما فيها الأملاك البحرية، وخسارة مليارات الدولارات نتيجة لذلك.

لقد شكلت الهجرة سمة أساسية من سمات لبنان الحديث، ومع ذلك ما من احصائيات رسمية حول عدد المهاجرين اللبنانيين. فالدراسات المتوفرة، مثل دراسة الدكتور رياض طبارة، تقدر عدد المهاجرين بنحو 100 ألف سنويا ً خلال السنوات الأخيرة، في حين قدرت دراسة أخرى أجراها الدكتور أنيس أبي فرح أن هذا العدد قد بلغ 2325131 في الفترة 1990-2000.  غير أن الدراسة التي قامت بها الدولية للمعلومات قدرت عدد المهاجرين بين العامين 1991 و2001 بنحو 200 ألف مواطن. وقدبينت الدراسة أن 82.6% من المهاجرين تتراوح أعمارهم بين 20 و44 عاما ً، وأن أكثر من نصفهم هم من الخريجين الجامعيين. أما عواقب ارتفاع معدل هجرة الشباب على المدى الطويل فهي تحول لبنان الى مجتمع هرم وأقل انتاجية. 

بلغت قيمة الانفاق العام 42 مليار دولار في الفترة الممتدة بين 1992 و2004. تمثل فوائد الدين العام نسبة 35%، تليها نسبة الرواتب والتعويضات (23%)، ثم النفقات التشغيلية (16%). ويجسد الرسم البياني أدناه توزيع النفقات خلال الفترة 1992-2004.

بلغت قيمة الدين العام 54.122 مليار ليرة لبنانية، تضاف اليه الهبات والقروض التي تسلمتها الحكومة والتي تبلغ قيمتها 8300 مليون دولار، ومستحقات الحكومات لكل من القطاعين العام والخاص التي تبلغ قيمتها 4659 مليار ليرة لبنانية. فتصل بذلك القيمة الاجمالية للدين العام الى 88231 مليار ليرة لبنانية. أي 241% من الناتج المحلي الاجمالي مع 80% نسبة فوائد أو  28180 مليون دولار أميركي.

1- فوائد البنوك

بلغ عدد المصارف العاملة في لبنان، 63 مصرفا ً حتى شهر حزيران 2005، مع قيمة اجمالية للودائع بلغت 54.1 مليار دولار. تنحصر 70 % من هذه الودائع ضمن 14 مصرفا ً من المصارف الثلاثة والستين. ونتيجة التواطؤ الجاري بين المصارف الخاصة والحكومات المتعاقبة، تمكنت الحكومة من تحمل التكاليف الباهظة الناتجة عن ظاهرة الفساد والهدر المستفحلة. فقد حصلت الحكومة على القروض من هذه المصارف وذلك بفوائد مرتفعة للغاية، مما سمح للقطاع المصرفي بتحقيق أربح طائلة على حساب الخزينة العامة رغم الركود الاقتصادي (بلغت فوائد سندات الخزينة 28و180 مليون دولار خلال الفترة 1993-2005).

2- قانون دمج المصارف

أقر مجلس النواب في العام 1994 قانونا ً يهدف الى تسهيل عمليات دمج المصارف وانشاء مؤسسات مصرفية  أكبر حجما ً، ومساعدة المؤسسات الصغيرة على مواجهة المشاكل الناتجة عن تدهور قيمة الليرة اللبنانية أو عن سوء الادارة، وذلك من خلال منح مصرف لبنان القروض للمصارف الدامجة. وتمت  بموجب هذا القانون 25 عملية دمج، من دون التدقيق بشكل فعال في نوايا هذه المصارف واحتياجاتها الفعلية. وبلغت قيمة القروض الممنوحة 1150 مليون دولار بفائدة لا تتخطى نسبة 3%- 5% ولآجال طويلة (10-15 سنة). عمدت المصارف الدامجة بدورها - الى استثمار هذه القروض بشكل سندات خزينة فحققت أرباحا ً طائلة.

3- تبييض الأموال

كان لبنان من أوائل دول المنطقة التي اعتمدت قانون السرية المصرفية، مما جذب الودائع من مختلف البلدان العربية التي تشهد تغييرا ً في النظام بالاضافة الى تصنيفه ضمن الدول ال15 غير المتعاونة في موضوع تبييض الأموال من قبل مجموعة العمل المالي GAFI. تم اقرار قانون متعلق بمكافحة تبييض الأموال في العام 2001 الا أن الانتهاكات استمرت في ظل تغطية أمنتها الطبقة السياسية الحاكمة مثل قضية بنك المدينة.

4- شركات الاسمنت

وافقت الحكومة اللبنانية على قرار حظر استيراد الاسمنت مقابل تعهد الشركات الثلاث الرئيسية في هذا القطاع بتخفيض أسعارها. الا أن هذه الشركات لم تلتزم بعهودها فعمدت الى الاحتكار ورفعت أسعارها محققة أرباحا ً طائلة على حساب الشعب اللبنني. فبلغت قيمة التكاليف التي تكبدها المستهلك في الفترة 1993-2003 نحو 1و3 مليار دولار وفقا ً لتقرير أعدته الدولية للمعلومات لم ينشر بعد حول ثمن الفساد والهدر.

5- القطاع الخلوي

أصدرت الحكومة تراخيص لشركتين خاصتين في العام 1994 من أجل انشاءوتشغيل شبكتين خلويتين، كان المساهمون فيهما مقربين من مسؤولين رفيعي الشأن. حددت الشركتان، بعد أخذ البركة من الحكومة (الحكومات)، ثمن الخطوط ودقائق التخابر فعدت من بين أغلى التسعيرات في العالم فتم تحقيق أرباح طائلة قدرت بما يفوق المليار دولار.

بالاضافة الى ذلك، حصلت الشركتان على 180 مليون دولار كتعويض من جانب الحكومة بسبب فسخ العقود والتي لم تحقق منها آية فوائد مجزية.

6. الأملاك العامة

خلال الحرب الأهلية اللبنانية استولى عدد كبير من السياسيين وزعماء الأحزاب النافذين على أملاك عامة على ضفاف الأنهار وشاطىء  البحر فأنشأوا المشاريع السياحية والتجارية. تم التقدم باقتراح قانون الى مجلس النواب يهدف الى تصحيح الوضع الحالي الا أنه مجمد منذ العام 1993. تقدر الخسائر ب 500 مليون دولار كحد أدنى، كان يفترض أن تحصلها الحكومة نتيجة لتسوية تلك المخالفات و50-70 مليون دولار كايجارات لقاء تلك الاشغالات.

7- الكهرباء

أنفق لبنان ما يزيد عن 1.8 مليار دولار من أجل اعادة تأهيل المعامل والشبكات الكهربائية وانشائها، الا أنه قد فشل في تأمين تغذية كهربائية مستمرة نظرا ً الى أسباب عديدة مثل الأعطال المفاجئة، والنقص في المحروقات، وعجز الموازنة الناتج عن ارتفاع سعر المحروقات عالميا ً، والسرقات في هذا القطاع تقدر بحوالى 300 مليون دولار سنويا ً.

8- الصحة

ثمة أجهزة حكومية عديدة مسؤولة عن تأمين الرعاية الصحية: وزارة الصحة، المستشفيات  العسكرية، تعاونية موظفي الدولة، وزارة الشؤون الاجتماعية، صناديق التعاضد، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. يبلغ مجموع النفقات 390 مليون دولار بالاضافة الى تكاليف التغطية الصحية من خلال شركات التأمين الخاصة التي تبلغ 230 مليار ليرة لبنانية في السنة، والفواتير الصحية المسددة مباشرة من قبل المواطن. تبلغ القيمة الاجمالية للنفقات العامة والخاصة في قطاع الصحة 600 مليون دولار، أو 12% من الناتج المحلي الاجمال وفقا ً للتقرير المشار اليه سابقا ً، وهي نسبة مرتفعة للغاية اذا ما قورنت ببلدان أخرى شبيهة بلبنان.

بالاضافة الى ذلك، بلغت النفقات المرصودة للدواء 25%-30% من النفقات الصحية الاجمالية، وقدرت بنحو 430-500 مليون دولار سنويا ً (2000-2003)، وهي قيمة بالغة الارتفاع أيضا ً مقارنة بالبلدان العربية الأخرى مثل الأردن (120مليون دولار)، والكويت (150 مليون دولار)ن وليبيا (215 مليون دولار)، وسورية (225 مليون دولار)،عمان (110  ملاين دولار)، والامارات العربية المتحدة (150 مليون دولار).

يعود ارتفاع قيمة الانفاق العام على الرعاية الصحية والطبية الى أسباب عديدة: اعتماد الأجهزة المعنية لوائح أسعار مختلفة حتى ضمن المستشفى الواحد، ارتفاع عدد العقود المبرمة مع المستشفيات الخاصة لاعتبارات سياسية وطائفية وليس لاحتياجات طبية، غياب الرقابة والتدقيق في فواتير المستشفيات. فحتى عند الكشف عن المخالفات، تطوى القضية بسبب الحماية السياسية التي تتمتع بها المؤسسة. لقد كشفت الدراسة السابق ذكرها أيضا ً أنه يمكن خفض هذه القيمة بنحو 300 مليون دولار، مما يؤدي الى خفض الانفاق على القطاع الصحي الى نسبة 6% عوضا ً عن 12% من الناتج المحلي الاجمالي.

9- التعليم

بلغت قيمة الأموال التي رصدت لقطاع التعليم في موازنة العام 2004، 690 مليون دولار واذا ما أضفنا قيمة نفقات التعليم الخاص، تصبح القيمة الاجمالية لنفقات قطاع التعليم 110 مليار دولار.

تشير هذه الأرقام المرتفعة الى وجودج هدر يمكن ايجازه كما يلي:

-الفائض في عدد المعلمين في المدارس الرسمية مع نسبة تصل الى معلم واحد لكل 9 تلاميذ، مقارنة بمعدل معلم واحد لكل 15 تلميذا ً في المدارس الخاصة.
- التعاقد مع معلمين من دون وجود حاجة فعلية اليهم.
- المساعدات والمنح التعليمية التي يستفيد منها موظفو القطاع العام عن أبنائهم المسجلين في مدارس خاصة.
- تخصيص 20 مليون دولار سنويا ً لمدارس خاصة مجانية (تابعة لمؤسسات دينية) على الرغم من أن المدارس الرسمية قادرة على استيعاب تلامذة هذه المدارس.

لقد كشفت دراسات جدية أنه يمكن تخفيض قيمة هذا الانفاق بنحو 300 مليون دولار، أي خفض تكلفه القطاع التعليمي الى 5%، وهي نسبة الانفاق الحاصلة في البلدان الشبيهة بلبنان.

10- المنظمات غير الحكومية

ترصد وزارة الشؤون الاجتماعية مبالغ سنوية للجمعيات التي لا تتوخى الربح، بلغت قيمتها 70 مليون دولار في العام 2004. على الرغم من عدم فعالية هذه الجمعيات وافتقارها الى الشفافية، تعجز الحكومة عن الغاء مخصصاتها نظرا ً الى الدعم السياسي والطائفي الذي تحظى به.

11- فائض الموظفين

قدر فائض الموظفين في الادارات والمؤسسات العامة (باستثناء المعلمين وقوى الأمن) بنحو 15 ألفا ً، مع كلفة سنوية تتراوح بين 60 و 70 مليون دولار. هنا أيضا ً نرى الحكومة عاجزة عن اتخاذ القرارات الملائمة نظرا ً للحصانة السياسية أو الدينية التي يتمتع بها هؤلاء الموظفون.

12- وزارة المهجرين

قدرت الحكومة اللبنانية في العام 1993 تكاليف عودة المهجرين بنحو 330 مليون دولار، الا أن الحكومات المتعاقبة كانت قد أنفقت بحلول نهاية تموز 2005، 1.150 مليون دولار، مؤكدة على حاجاتها الى مبلغ 300 مليون دولار اضافي من  أجل انهاء هذا الملف. السبب الحقيقي لهذا الهدر هو دفع التعويضات الى المهجرين على أساس مصالح انتخابية وسياسية وطائفية بدلا ً من الحاجات الفعلية.

13. البيئة

يعتبر الانحلال البيئي من المشاكل الرئيسية التي يواجهها لبنان. فقد قدرت تكاليف هذا القطاع بين 500 و560 مليون دولار سنويا ً. ثمة أسباب عديدة لهذا الانحلال،مثل:

- الانبعاثات من محركات السيارات، خاصة في المدن المكتظة.
- الانبعاثات من المصانع، خاصة معامل الاسمنت في الشمال.
- غيال المصانع والشبكات المتخصصة في معالجة مياه الصرف الصحي.
- غياب أية خطة لمعالجة النفايات الصلبة.
- الافتقار الى التنظيم وتعزيزالقوانين المتعلقة بالمقالع والكسارات.
- عدم تنفيذ الخطط الريفية والمدينية أو غيابها.

14. الاهمال

نظرا ً الى الظروف السائدة، تعاني فئات عديدة من الاهمال، اذ انها لا تشكل عنصرا ً أساسيا ً في المعادلة التي تهم الطبقة السياسية، مثل المجموعات الضعيفة والمهمشة (الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة، المسنون، الأيتام، المعوقون،اللاجئون الفلسطينيون، الخادمات الأجنبيات، الخ...) فالخدمات التي تقدمها الحكومة لتلبية احتياجات هذه الفئات ضئيلة جدا ً، أو معدومة. لذا، فالمواطنون مجبرون على اللجوء الى مؤسسات الطائفة التي ينتمون اليها (الممولة بغالبيتها من قبل الحكومة)، مما يعزز تبعية المواطنين لهذه المؤسسات واعتمادهم عليها عوض دولتهم.

قد يكون النظام اللبناني  أشبه بالجريمة المثالية التي لا يمكن الكشف فيها عن المرتكبين الفعليين؛ فالمواطنون يلقون اللوم على الموظفين، والموظفون يوجهون أصابع الاتهام نحو السياسيين، والسياسيون يدينون المواطنين والموطفين والتدخل الأجنبي الذي يلقي اللوم بدوره على الجميع. ما من أحد يتحمل مسؤولية الأوضاع السائدة. فالمواطنون يستمرون في دعم الطبقة السياسية نفسها التي تكافئهم من خلال منح الامتيازات الى الطوائف. الموظفون يشتكون من التدخل السياسي الا أن هذا التدخل نفسه هو الذي ضمن توظيفهم وبقاءهم في مناصبهم، في ظل غياب النظام المبني على الكفاءة وسيادة المحسوبية والواسطة.

يلجأ "الزعماء" الى تدخل القوى الأجنبية المتربصة التي تدعم بدورها حكم هذه القوى وتعززه، على الرغم من ادانتها لفسادها وللظروف الجغرافية السياسية السائدة التي هي من صنعها. ويشهد لبنان اليوم موجة من التدخل السياسي الأجنبي الذي ساهمت فيه كافة الطوائف؛ فالزعماء  السنة تحالفوا مع الولايات المتحدة، والدروز مع فرنسا، والشيعة مع ايران وسوريا، والموارنة مع فرنسا والولايات المتحدة.

الخلاصة

لقد تناولت هذه المقالة نماذج عن "الفساد" أو بالأصح "الحالة" التي يتحمل مسؤولياتها المباشرة الشعب والمسؤولون اللبنانيون. الا أن أي تحليل معمق  لآفة الفساد يستلزم، بالاضافة الى ما ورد سابقا ً، تحليلا ً لمظاهر الفساد الناتجة عن التدخل الخارجي المباشر، مثل التدخل السوري في العقدين الأخيرين. هذا الى جانب دور المنظمات الدولية مثل مؤسسة التمويل الدولية IFC التي مولت عملية توسيع معمل اسمنت في الشمال على الرغم من ادراكها للآثار البيئية السلبية الناتجة عن هذا المشروع، وبعض المنظمات التابعة الى الأمم المتحدة التي تستمر في تأمين مظلة للهدر والفساد. لا شك أن النظام يلائم اللاعبين بأصول قواعده ويأسر من ينجذب الى  ألاعبيه الا أنه يسحق الضعفاء والثوار من دون رحمة. 

أظهرت هذه المقالة أيضا مرونة النظام وتماسكه ودرجة مقاومته وقدرته على التكيف مع المتغيرات. فكل محاولة للاصلاح ومكافحة الفساد يجب أن تهدف الى القضاء على النظام الطائفي نفسه. وبالتالي فان المفاهيم الجديدة المتعلقة بالاصلاح الاجتماعي والمالي، مثل مقارنة "جزر النزاهة" و"الجرعة السريعة" التي تستهدف الاصلاح الجزئي محكومة بالفشل. لا بد من قيام حوار حقيقي بين اللبنانيين من أجل تشخيص الأسباب الجوهرية كخطوة ضرورية باتجاه "ثورة ثقافية " تؤدي في نهاية المطاف الى انشاء سلم قيم قادر على كسر الحلقة المفرغة واستهلاك مسيرة الاصلاح الطويلة. ويكفي اللبنانيين لوم الآخرين على مصير ارتضوه.