القانون التجاري اللبناني والانترنت بقلم: القاضي الدكتور جوزف عجاقه أستاذ محاضر في جامعة الروح القدس في الكسليك
العدل مجلة نقابة المحامين في بيروت - مجلة حقوقية تصدر كل ثلاثة أشهر السنة السابعة والأربعون 2013 العدد الرابع
ان القانون التجاري هو وليد البيئة التجارية بما فيها من حركة وسرعة وحرية وضمانات التعامل والثقة. وهو قانون متحرك يتطور مع تطور الأعمال والمشاريع التجارية وتنوعها. بالفعل، ان الأعمال التجارية تتسم بطابع السرعة والمرونة، بمعنى انها تتلاحق بكثرة، وتتعدد، وتختلف باختلاف الحاجات ومتطلبات الحياة، كما ان هذه الأعمال تقوم على الائتمان والثقة وذلك عن طريق فرض وتوفير ضمانات للدائن والمتعامل مع التاجر، وهي ترتبط بمقدار الدين وتتأثر بمدى الثقة والسمعة التي يتمتع بها التاجر المدين.
ان تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبخاصة الانترنت (1) وتطبيقاته كالرسائل الالكترونية من جهة، والتجارة الالكترونية (2) من جهة أخرى عرفت ولا تزال تطورا ً هاما ً.
ان الأعمال القانونية، وبخاصة الأعمال والعقود التجارية الحاصلة الكترونيا عبر الانترنت، ليست بمنأى من هذا التطور، سيما وانه بامكان الفرقاء استعمال هذه التكنولوجيا بهدف الحصول على معلومات وبيانات في مختلف مراحل التعاقد، وصولا ً الى ابرام العقد كذلك بالطريقة الالكترونية. مثال على ذلك ان تاجر لبناني يريد شراء بضاعة من بلد أجنبي بهدف بيعها بربح في لبنان، يمكنه اللجوء الى مواقع متخصة لبيع البضاعة التي يريد شراءها، ويقوم بمراسلة الشركة القيمة على الموقع بواسطة البريد الالكتروني وابرام العقد معها ودفع قيمة البضاعة عبر الانترنت. وتقوم الشركة الأجنبية المتعاقدة بدورها بارسال المستندات الثبوتية بواسطة البريد الالكتروني، وتقوم بعدها بشحن البضاعة برا ً أو بحرا ً أو جوا ً.
اذن، ان التطور المذكور امتد أثره حتما ً الى القانون التجاري، سيما وان الأعمال والعقود التي تجري عبر الانترنت هي في تزايد مستمر ، وذلك بسبب سهولة وسرعة اتمام المعاملات بواسطته. من هنا، تبرز أهمية هذه الدراسة في ضوء انعدام النصوص القانونية اللبنانية الواضحة والصريحة في مجال الانترنت والتجارة الالكترونية والتي من شأنها أن ترعى الاشكاليات و النزاعات المتعددة التي يمكن ان تنشأ من التبدلات التجارية الالكترونية. من أبرز هذه الاشكاليات تلك المرتبطة بالنظام القانوني للأعمال التجارية كقواعد الاختصاص والاثبات من جهة وتلك المتعلقة بالمؤسسة التجارية الالكترونية (3) من جهة أخرى.
سوف نسلط الضوء في هذه الدراسة على نقطتين أساسيتين: الاولى تتعلق بالانترنت والنظام القانوني للأعمال التجارية (قسم أول)، والثانية تتعلق بالنظام القانوني للمؤسسة التجارية الالكترونية (قسم ثان).
سوف نحصر هذه الدراسة بالقانون اللبناني مع الاشارة الى القانون الفرنسي المتطور في هذا المجال عند الاقتضاء.
القسم الأول - الانترنت والنظام القانوني للأعمال التجارية
يمكن القول في البدء بأن لا صعوبة في تطبيق النظام القانوني الكلاسيكي للأعمال التجارية على الأعمال والعقود التجارية الحاصلة بالوسائل الالكترونية (4)، سيما لناحية مجانية الأعمال التجارية والتضامن بين التجار بدين تجاري واحد في حال تعددهم، ومعدل الفائدة التجارية، ولكن تكمن الصعوبة بمسألتين سوف نقتصر على معالجتها تباعا ً: الاولى متعلقة بالاختصاص وهي مرتبطة بمسألة تحديد المحكمة المختصة والقانون الواجب التطبيق، والثانية متعلقة بقواعد الاثبات.
الفصل الأول: قواعد الاختصاص
من الثابت أن قاعدة التخصيص لا تطبق في لبنان، بمعنى انه لا يوجد محاكم تجارية (5) متخصصة، أي تنظر حصرا ً بالمنازعات الناشئة عن الأعمال والعقود التجارية والديون ذات الطابع التجاري. ولم يأخذ المشترع اللبناني بنظام المحاكم التجارية الخاصة والمستقلة عن المحاكم المدنية كما هو حال القانون الفرنسي، بل جعل اختصاص المحاكم العادية (العدلية) يتناول جميع القضايا والمنازعات المدنية والتجارية على السواء.
لقد تكرس هذا المبدأ بمقتضى المواد 86 و 90 و 93 من قانون أصول محاكمات مدنية. لقد نصت الاولى على اختصاص القاضي المنفرد في القضايا المدنية والتجارية، ونصت الثانية على الاختصاص العام للغرفة الابتدائية في القضايا المدنية والتجارية، واعتبرت الثالثة ان محاكم الاستئناف تنظر في الطعن بالاحكام والقرارات القابلة للاستئناف والصادرة في منطقتها عن محاكم الدرجة الاولى في القضايا المدنية والتجارية.
كذلك، من الثابت في هذا المجال انه في الدعاوى المتعلقة بالعقود المدنية او التجارية يكون الاختصاص لمحكمة مقام المدعى عليه الحقيقي او المقام المختار أو للمحكمة التي ابرم العقد في دائرتها، واشترط تنفيذ أحد الالتزامات الرئيسية الناشئة عنه فيها أو للمحكمة التي اشترط تنفيذ العقد بكامله في دائرتها (6).
وفي الدعاوى المتعلقة بالشخص المعنوي يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها مركزه الرئيسي سواء أكانت الدعوى على الشخص المعنوي أم منه على أحد افراده أو من أحد افراده على الآخر. وتجوز اقامة الدعوى لدى المحكمة التي يقع في دائرتها فرع للشخص المعنوي في المنازعات الناشئة عن التعاقد مع هذا الفرع أو عن عمله (7).
ان هذه المبادىء تطبق في حال كان القانون اللبناني هو المختص لفصل منازعة متعلقة بعمل أو عقد تجاري حاصل ومبرم عبر الانترنت.
ان المسألتين التي تطرح هنا تتناول تحديد مكان وزمان حصول التعاقد والقانون الواجب التطبيق في هذه الحالة.
النبذة الاولى - مكان وزمان حصول التعاقد
لم يتضمن قانون التجارة اللبناني أية أحكام تتعلق بهذه المسألة. من هنا لا بد من الرجوع الى القواعد العامة المنصوص عليها في المادتين 184 و185 من قانون الموجبات والعقود.
بحسب المادة 184 اذا كانت المساومات جارية بالمراسلة أو بواسطة رسول بين غائبين، فالعقد يعد منشأ في الوقت وفي المكان اللذين صدر فيهما القبول ممن وجه اليه العرض.
والمادة 185 تنص على ان العقد الذي ينشأ بالمخاطبة التلفونية يعد بمثابة العقد المنشأ بين اشخاص حاضرين. وحينئذ يعين محل انشائه اما بمشيئة المتعاقدين أو بواسطة القاضي وبحسب احوال القضية.
1- ان الاشكالية الآولى التي تطرح هنا تتعلق بتحديد ما اذا كان التعاقد الحاصل عبر الانترنت هو بمثابة عقد حاصل بالمراسلة أم عقد منشأ بالمخاطبة التلفونية.
يتبين من الواقع العملي من جهة اولى ان هنك اتفاقات تحصل بالمراسلة عبر الانترنت عن طريق تبادل البريد الالكتروني (8) دون اجراء أية مكالمة هاتفية او اجتماعات او لقاءات بين المتعاقدين لبحث مضمون العقد وشروطه. في هذه الحالة، نكون امام مساومة جارية بالمراسلة ويصار الى تطبيق نص المادة 184 المذكورة. ومن جهة ثانية، هناك بعض الاتفاقات التي تحصل اما بالتحدث عبر الهاتف مباشرة او بوسيلة الكترونية موازية كال Video Conference - Video Call عندها يعتبر العقد منشأ بالمخاطبة التلفونية ويصار الى تطبيق المادة 185 المذكورة. كذلك الامر في حالة اللجوء الى الوسيلتين معا ً: استعمال البريد الالكتروني والمخاطبة التلفونية او الوسيلة الالكترونية الموازية لها، عندها نعتقد بضرورة تطبيق أحكام المادة 185 المذكورة.
ان هذا التمييز بالغ الأهمية لاختلاف الحلول المكرسة في المادتين المذكورتين.
لقد كرس المشترع اللبناني بمقتضى أحكام المادة 184 نظرية اعلان القبول (9). فالعقد ينعقد بمجرد الاعلان والافصاح عن القبول ودون التوقف على علم المتعاقد الذي صدر عنه العرض بهذا القبول أو عدم علمه به.
ان هذا الحل المكرس في المادة 184 يأخذ بعين الاعتبار ما تتطلبه التجارة من سرعة في التعامل ما يتيح للتاجر الذي يعرض عليه شراء بضاعة او سلعة ما ان يتصرف بها بمجرد اعلان قبوله.
اذن بمقتضى هذا الحل، يعتبر العقد منشأ في الوقت وفي المكان الذي صدر فيهما القبول عن المتعاقد الآخر (أي ممن وجه اليه العرض) في أي بلد أجنبي تواجد فيه.
أما لناحية التعاقد الحاصل بالتلفون (10) فهو يعتبر تعاقدا ً بين حاضرين من حيث الزمان ولو تواجد المتعاقدين في بلدان مختلفة، فالمتعاقد يعلم بصدور القبول فورا ً، لذلك، يعتبر التعاقد الحاصل في هذه الحالة تاما ً في الوقت الذي يعلن فيه من وجه اليه العرض قبوله وفي هذا الوقت بالذات يعلم الشخص الذي صدر عنه العرض بحصول القبول.
من اللافت ما ورد في الفقرة الثانية من المادة 185 التي تركت أمر تحديد مكان انعقاد العقد لارادة المتعاقدين، وذلك تطبيقا ً لمبدأ سلطان الارادة، وفي حال الاغفال أو عدم حصول الاتفاق يعود للقضاء المختص ان يعينه بالاستناد الى ظروف كل قضية. وبذلك لا يكون المشترع قد حسم مسألة مكان انعقاد العقد بصورة واضحة وجازمة.
2- تجدر الاشارة الى انه في العقود والاعمال التجارية الجارية بالوسيلة الالكترونية عبر الانترنت يمكن ان يصدر القبول ويصل الى علم المتعاقد العارض في الوقت ذاته او بعد دقائق قليلة (11)، وبمجرد صدور الأمر بارسالها الى الشخص الموجهة اليه، بحيث القول أن التعاملات الالكترونية عبر الانترنت تتم في الوقت الحالي وبصورة آنية (12). وبالتالي، يمكن للشخص المتعاقد الذي صدر عنه العرض ان يعلم بصدور وحصول القبول عن المتعاقد الآخر وتاريخ وساعة صدوره.
كما يمكن للمتعاقد الذي صدر عنه العرض ان يعلم بحصول وصدور القبول بمجرد اقدام المتعاقد الآخر على دفع ثمن السلعة او البضاعة المشتراة بالوسيلة الالكترونية عبر الانترنت بواسطة البطاقة المصرفية مثلا ً أو اقدامه على تحويل الأموال عن طريق شركات متخصصة، فتبادر عندها الشركة التي جرى الدفع بواسطتها الى اعلامك المتعاقد بحصول الدفع وترسل له ما يثبت ذلك (13).
3- يعود للشخص الذي وجه اليه العرض ان يدرس ويمحص شروط العقد وبنوده وان يبدي الملاحظات والتعديلات عليه المتوافقة مع مصالحه والغرض الحقيقي من التعاقد.
ففي هذه الحالة، تطبق القواعد العامة لمعرفة زمان حصول التعاقد. من الممكن ان تتم الموافقة الفورية على جميع بنود العقد و يعمد المتعاقد الى التوقيع عليه بدون تعديل فتكون عندها الموافقة والقبول بمثابة تأييد مطلق للعرض.
من الممكن كذلك أن يكون العرض الوارد بالوسيلة الالكترونية عبر الانترنت غير قابل لأية مناقشة أو تعديل من قبل الشخص الذي وجه اليه العرض أو متصفح الموقع الوارد فيه (14)، فتطبق في هذه الحالة القواعد المتعلقة بعقود الاذعان.
4- من المفيد القول في هذه المرحلة انه في العقود الالكترونية اعتبر البعض ان النصوص المعمول بها في هذا المجال تكرس نظرية استلام القبول وهي النظرية الوحيدة المقبولة (15).
5- ان الصعوبات الكامنة وراء تحديد مكان انعقاد العقد هي التي تحمل على اعتبار هذا النوع من التعاقد حاصلا ً بين غائبين لاختلاف مكان احدهما عن الآخر (16). وبالتاي، اذا كان من صدر عنه الايجاب في لبنان ومن صدر عنه القبول في بلد اجنبي، فان العقد يعتبر منعقدا ً في المكان الذي صدر منه القبول (في حال الاخذ بنظرية اعلان القبول) أو في المكان الذي صدر فيه الايجاب (في حال الاخذ بنظرية العلم بالقبول (17).
بعد الانتهاء من بحث مكان وزمان ابرام العقد، ننتتقل هنا الى بحث مسألة القانون الواجب التطبيق.